قال صاحبى :لماذا يقف القرآن من الشعر هذا الموقف ؟
قلت :أى موقف ؟
قال :موقف العداء الصريح .
قلت :من قال ذلك ؟
قال:ألم تقرأأواخر سورة الشعراء؟يقول تعالى :"والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالايفعلون"
قلت :الآية تتحدث عن الشعراءلاعن الشعر.
قال:وما الفارق ؟
قلت :الشعر أداة.فإذا أساءالشاعر استخدام تلك الأداة فالذنب ذنبه
فالماء-مثلا-نعمة كبرى فإذا جاء من يفسده ويسممه فليس ذلك ذنب الماء .
قال :كلام معقول ولكن آية سورة (يس)تنزه الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر."وما علمناه الشعروما ينبغى له إن هو
إلاذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين"
قلت :الشعر من المعارف التى علمها الله للأنسان .ولكن الله لم يعلمه رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لايناسب مقام الرسالة .
قال:ولماذا ؟
قلت :لأن الرسالة تقوم على معالجة الحقيقة بالحق .
قال:وما الحقيقة وما الحق ؟
قلت :الحقيقة هى الواقع حقا أو باطلا .أما الحق فهو الصواب .
قال:وما علاقة ذلك بالشعر ؟
قلت:الشاعر يجنح إلى الخيال والوهم ويصنع لنفسه عالما غريبا
لايمت للواقع بصلة وربما يقوم على الكذب .وقد قال نقادنا زمان
(أعذب الشعر أكذبه).
قال:ولكن نقادنا الآن يستنكرون ذلك ويدعون إلى الصدق فى الشعر.
قلت:يا عزيزى يدعون إلى الصدق الفنى أى الصدق فيما يسمونه
(التجربة الشعرية)بمعنى أن يعبر الشاعر عما يحس به وما يعتمل فى وجدانه ويلهب عاطفته .وقد يكون كل ذلك من نسج خياله .
قال :إلى هذه الدرجة ؟
قلت :أجل .اسمع قول ذلك الشاعر :
ليت الكواكب تدنو لى فأنظمها
عقود مدح ,فما أرضى لكم كلمى
فانظرماذا يتمنى ؟
إنه يتمنى أن يجعل من الكواكب السماوية عقودا مدح بدلا من الكلمات .فأى خيال هذا ؟ واسمع قول الآخر :
إن فى بردىّ جسما ناحلا
لو توكأت عليه لانهدم
إنه (بشاربن بُرد) وكان ضخم الجثة ومع هذا يقول إن جسمه ناحل
لو استندت عليه تلك المخلوقة الضعيفة لتهدم .فأى كذب هذا ؟
ولكن الشاعر يعبر عما يحس به وإن كان مخالفا للحقيقة وهذاما
يسمونه (الصدق الفنى ).
قال :ولكن الشعراءالمعاصرين يتناولون قضايا مجتمعاتهم بل
قضايا الإنسانية .وليست المسألة -دائما-مسألة عواطف جياشة .
قلت :مادام هناك شعر فلا بد من العواطف الجياشة هذه .والشاعر يستثير الناس إلى قضيته بكل ما يملكه من أدوات التأثير.وهل
الشعر إلا تحريك الشعور؟
ولو قال كل شاعر الصدق الخالص ما كان هناك شعر.وإنما هو الخيال يحلق ويحلق ليحلى ويجلى .وهذا ما قرره القرآن :ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون "؟
والشعر دون خيال قول ثقيل الظل .لايجد آذانا تسيغه .
فهل ترى أن الشعر يليق بنهج الرسل ؟
قال :اللهم لا .
قلت :ومع هذا فإن القرآن لم يغمط الشعر حقه .
قال :كيف ؟
قلت :ألم يقل الله تعالى فى نفس السورة -سورة الشعراء-"إلا الذين
ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا " ؟فالآية استثنت من الشعراءأولئك الذين جعلوا شعرهم فى خدمة مبادئهم ,ونصرة الحق .
قال :وهذا يثير قضسة الالتزام الفنى .
قلت :نعم .فمسألة (الفن للفن ) لا يقرها الإسلام لأنها تعنى مطلق
الإبداع دون مراعاة أية قيود ومنها قيود الدين .فالفنان يبدع ما
يدور فى خياله ولو كان صورة عارية أو تمثالا أو حتى عاشقين
يتسافدان .فكل هذا (فن )و(إبداع ).والإسلام يأبى هذاوينكره .
فداخل كل إنسان عوالم وبحار وأمواج ولوقذف كل فنان ما بداخله
لاستحالت الحياة حمما وبراكين .إذن لابد من شىء من الانضباط
حتى لايدمر الإنسان نفسه ومن حوله وهذا هو (الالتزام ).
قال :ولكن اليس هذا قيدا يعوق حرية الإبداع ؟
قلت :(الالتزام )حزام .ولكنه فضفاض مرن يسمح بمدى واسع
وما دامت الدائرة تصب فى الخيرالعام والخاص فلا بأس مع تذكّر
أن الأصل فى الأشياء(الإباحة ) طبعا بكسر الهمزة .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسيغ الشعر.ويكافىء
عليه وهو الذى خلع على (كعب بن زهير )بردته ,وكان يستنشد الخنساءمراثيها فى أخويها .وكان له شعراؤه الذين يحرضهم على
مقارعة أعدائه ,وكان يقول لحسان بن ثابت رضى الله عنه "إن شعرك أشد عليهم من السيف " "ويقول له "اهجهم وروح القدس معك ".وفى هذا أبلغ دليل على مقام الشعر فى الإسلام .
قال صاحبى :هذا يكفى عن الشعر .فماذا عن قوله تعالى "إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين؟.
قلت :لذلك حديث آخر .فكن من الصابرين .
....مصطفى فهمى ابو المجد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق