د. صلاح سلطان
هذه فرية يكذبها الميدان، فقد عاش الإخوان أكثر من ثمانين عامًا وهم يدعون إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان في الإمكان الوصول إلى هذه الكراسي سريعًا بإمكاناتهم العلمية والتربوية والحركية القوية منذ الإمام البنا، ولكنهم رفضوا رفضًا قاطعًا أن يكونوا جزءًا من أنظمة تتخلَّى عن ثوابت دينهم ووطنيتهم، ومن الشواهد الواقعية الميدانية ما يلي:
1- عُرِض على الإمام البنا أن يكون في صدارة المشهد السياسي، بشرط أساسي، وهو عدم الحديث عن فلسطين، ويعطون من الوزارات والكراسي الكثير، حتى جاء إلى الإمام البنا أحد كبار رجال السفارة البريطانية، وهي الدولة المحتلة والحاكمة لمصر والمشرفة على تأسيس الكيان الصهيوني، وقُدِّم للإمام البنا مليون جنيه مصري تساوي الآن نصف مليار على الأقل؛ فوقف الإمام رافضًا بإباء أن يتنازل عن قضية فلسطين، وقال: ما دمتم تظنون أننا عبيد ملتصقون بالأرض، ونمد أيدينا لغير الله فأنتم لم تعرفوا من هم الإخوان المسلمون!!
فقال المندوب السامي: لقد أخذت كل الأحزاب المصرية، واستفيدوا مثل غيركم من هذا المال لأنشطتكم! فقال الإمام: إننا نأبى أن نمد أيدينا لعدونا، ولسنا فقراء إلا لله تعالى. فعاد المندوب البريطاني وكتب في مذكراته: إن المال الذي سال له لُعاب الكثير من القيادات المصرية سال له أيضًا لعاب الإخوان المسلمين؛ لا ليأخذوه ولكن ليبصقوا عليه.
فلو كان الإخوان طُلاّب الكراسي والدنيا لتخلَّوا منذ زمن بعيد عن قضية الأمة، وهي فلسطين، بل جعل الإمام البنا أول مؤتمر في تاريخ الإخوان المسلمين عن القدس وفلسطين، ولما أرسل لرئيس وزراء مصر ليحضر -ولا داعي لذكر الأسماء ترفقًا ببعض الأحزاب- قال: أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين. وشكَّل الإمام البنا النظام الخاص الذي قدَّم تضحيات مشرِّفة لتحرير مصر من الإنجليز، وفلسطين من الصهاينة..
ولا تزال القدس وفلسطين القضية الأولى التي من أجلها سقط الكثير شهداء، وسُجن عشرات الآلاف، وعذِّب الآلاف. وأسس الإخوان حركة حماس، وهي الحركة التي قدمت السبق في الجهاد والاستشهاد والصبر الجميل في العمل السياسي والجهادي، وقدمت حركة حماس رغم الحصار كل صور القوة في مقاومة الصهاينة في حرب الرصاص المصبوب أو "موقعة الفرقان"، ورفع شعار: "الجوع لا الركوع"، وصارت غزة أكثر مكان في العالم أمنًا داخليًّا، وندرةً في الجرائم الجنائية، وأقل بلاد العالم في العنوسة والطلاق، وأكثر منطقةً في العالم في الإنجاب والتعليم، والجامعة الإسلامية من أفضل الجامعات العربية كلها، وفيهم ستون ألف حافظ للقرآن الكريم، ولا يزالون يرفعون شعار: "الجوع لا الركوع"، من أثر هذه التربية وفق منهج الإخوان المسلمين.
2- جاءت ثورة 23 يوليو وكان هناك اتفاق بين الضباط والإخوان المسلمين للثورة على الاحتلال البريطاني والملكية التابعة لهم، وأسهموا بفاعلية كبيرة لإنجاح الثورة، ولولا وقفتهم في حماية المنشآت المصرية والحفاظ على الأرواح لما نجحت هذه الثورة. لكن البكباشي جمال عبد الناصر انقلب على الإخوان وأعوانه محمد نجيب وغيره، واستحوذ على كل شيء، وعرض على الإخوان أن يشتركوا في حكومة ديكتاتورية، ولو تخلَّى الإخوان عن وطنيتهم ودينهم لاستجابوا لمطالب عبد الناصر، وتحملوا في سبيل ذلك الإعدام لقادتهم، وسجنًا مؤبدًا وغير مؤبد طال 160 ألفًا من الإخوان، وعُذِّبوا تعذيبًا تشيب له الولدان، وطُلب منهم أن يكتبوا من السجن بعد مرارة وحرقة وآلام الظلم والطغيان، والسجن والحرمان، والتعذيب والتهديد، أن يؤيدوا جمال عبد الناصر ويندموا على انضمامهم للإخوان، فرفضوا أن يتخلوا عن ثوابتهم الدينية والأخلاقية والوطنية..
ومع هذا وقف الأستاذ المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين وقفةً قويةً في وجه التكفير الذي قاده داخل السجن مصطفى شكري وكتب كتابه: "دعاة لا قضاة"، ووضع فيه معالم المنهج الوسطي الذي لا يكفِّر مسلمًا مهما ارتكب من الكبائر ما لم ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، هذا مع أن بعض السجانين كان يقول: "لو نزل ربنا هاسجنه معاكم"، وداس بعضهم على المصحف، وطلبوا قراءة الفاتحة بالمقلوب، هذا فضلاً عن قاموس البذاءات الذي كانوا يتلقونه كل يوم على يد أعوان عبد الناصر الذي كان يسعد برؤية مشاهد التعذيب حتى للنساء، أمثال الحاجة زينب الغزالي؛ التي أدخلوا عليها شرطيًّا ليهتك عرضها، لكن الله أهلكه، وأدخلوا على الشيخ الأودن العالم المفسر كلبًا جائعًا لينهش لحمه ويأكل عظمه، فسجد الشيخ سائلاً الله أن يحفظه، وظل الكلب معه يهز له ذيله..
ومع كل هذا البلاء المستطير لم يكفِّروا جمال عبد الناصر، وخسروا جزءًا من شباب الجماعة، بل عندما أيقظ الإخوان في السجن الأستاذ عمر التلمساني المرشد الثالث للإخوان المسلمين وقالوا له: لقد مات جمال عبد الناصر. فقال: الله يرحمه! فقالوا له: كيف تقول ذلك وقد فعل بنا ما فعل؟ فقال: إذا رحم الله عبد الناصر، فما تظنون أن يفعل بنا؟! انظروا إلى الدار الآخرة، وهذا مقام رفيع قال فيه الله تعالى: {وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].
3- عرض محمد أنور السادات على الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام الثالث للإخوان المسلمين في استراحة السادات بالقناطر أن يقبل منصب رئيس مجلس الشورى لمصر مقابل تنازلات جوهرية، فردَّ عليه الأستاذ التلمساني قائلاً: إنني أقبل أن أكون كنَّاسًا في شوارع مصر الإسلامية وليس رئيسًا لدولة لا تطبق الشريعة الإسلامية، وتحفظ حقوق المواطنين في الحرية والعدالة والكرامة. ولا ضير أن نذكر أن الأستاذ التلمساني كان قبل أن يدخل الإخوان من أكبر أغنياء مصر، وتبرَّع بكل ماله خدمةً لوطنه وأمته ودعوته، ومات لا يتقاضى إلا المعاش المحدود من نقابة المحامين. ومع هذا النُّبْل والرقي، انقلب السادات على الإخوان أولاً، والقوى السياسية المعارضة ثانيًا، وسجن الجميع؛ مما أدَّى إلى سوء عاقبته.
4- كان بوسع الإخوان أن يصمتوا على جرائم حسني مبارك في السلب والنهب والاستبداد والفساد، وأن ينالوا من الكراسي الكثير مثل أي تيار سياسي أقل منهم عددًا وعدةً، ولكن ثباتهم على مبادئهم جعلهم يصمدون في وجه الباطل، ويعمرون أرض مصر بخيرة العلماء والأطباء والمهندسين والعمال والفلاحين والطلاب والمدرسين، وكانوا هم من أول من أشاع الأخبار حول السلب والنهب الذي قام به علاء ثم جمال مبارك ووالدتهم السيدة سوزان؛ مما أثار غضب الرئيس داخليًّا لكشف الفساد، وخارجيًّا لمواقفهم من الصهاينة في فلسطين، والأمريكان في غزو العراق وأفغانستان وإذلال أمة الإسلام؛ فنال الإخوان من الطرد من الوظائف، والسلب من الحقوق السياسية والمدنية، وحُرم أي واحد قريب من الإخوان أن يعيَّن في السلك الدبلوماسي، أو يدخل إلى الجيش والشرطة والوظائف المهمة بل غير المهمة، بل سُجن منهم 45 ألفًا خلال ثلاثين عامًا عجافًا.
5- كان نصف الشباب على الأقل الذين خطَّطوا لثورة 25 يناير من شباب الإخوان المسلمين، ولم يعلنوا عن هويتهم من أجل إنجاح ثورة مصر، ثم شارك الإخوان بكثافة غير مسبوقة كمًّا وكيفًا، ولولا فضل الله تعالى أولاً ثم ثبات الإخوان بدءًا من موقعة الخيل والبغال والجمال لانتهت الثورة، وقد شهد بذلك أعداؤهم قبل أصدقائهم، وصبروا وصابروا ورابطوا، وحموا الميدان بطريقة بارعة أسهمت في وضوح المشهد الرباني والأخلاقي والتعايش الرائع مع غير المسلمين، حتى حمَوا الكنائس من البلطجية أثناء الثورة وأيام احتفالات أعياد الميلاد..
ولم يقف تيار سياسي من غير الإسلاميين في أية وقفة بميدان التحرير، فنجحت عددًا وإعدادًا، شكلاً ومضمونًا، وما قبلوا من المجلس العسكري إملاءاته ونكوصه على مبادئ الثورة، لكنهم اختاروا أن ينحازوا إلى ثوابتهم ووطنيتهم، وتحمَّلوا أقصى وأقسى وأعنف وأسوأ حملات التشهير بهم، من خلال أكثر من 22 قناة فضائية رسمية وغير رسمية وجرائد لا حصر لها، ومع هذا يمدون أيديهم وقلوبهم لكل أبناء وطنهم، مسلمين ومسيحيين، رجالاً ونساءً، شيبًا وشبابًا من أجل بناء مصر، وطلبوا فعليًّا من المستشارين البشري والغرياني ومكي أن يقبلوا الترشح للرئاسة، فلما وجدوا من المجلس نكوصًا على مبادئ الثورة وحقوق الشهداء تقدموا لتحمل الأمانة؛ فهي عبء ثقيل في مرحلة حرجة ليس فيها من المغانم من شيء، وكان أصلح لهم وأكثر راحة أن يبتعدوا هذه الفترة الأولى، لكن لأجل مصر تقدم مرشحوهم الذين لم يرغب أحدهم أبدًا في منصب الرئاسة.
وأخيرًا ها هم يقفون أمام الحكم القضائي الجائر الذي لم يرعَ دماء الشهداء والجرحى ولا حرقة الآباء والأمهات الموتورين، أو شوَّهت فلذات أكبادهم، فكان هذا الحكم القضائي لكثير من المجرمين قتلة الشباب الأعزل الثائرين بالحق، من أمثال مبارك وزبانيته من أبنائه وأعوانه.
أخيرًا..
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].
وقال الشاعر بديع الزمان الهمذاني:
سوف ترى إذا انجلى الغبار *** أفـرس تحتـي أم حمـار
هذه فرية يكذبها الميدان، فقد عاش الإخوان أكثر من ثمانين عامًا وهم يدعون إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان في الإمكان الوصول إلى هذه الكراسي سريعًا بإمكاناتهم العلمية والتربوية والحركية القوية منذ الإمام البنا، ولكنهم رفضوا رفضًا قاطعًا أن يكونوا جزءًا من أنظمة تتخلَّى عن ثوابت دينهم ووطنيتهم، ومن الشواهد الواقعية الميدانية ما يلي:
1- عُرِض على الإمام البنا أن يكون في صدارة المشهد السياسي، بشرط أساسي، وهو عدم الحديث عن فلسطين، ويعطون من الوزارات والكراسي الكثير، حتى جاء إلى الإمام البنا أحد كبار رجال السفارة البريطانية، وهي الدولة المحتلة والحاكمة لمصر والمشرفة على تأسيس الكيان الصهيوني، وقُدِّم للإمام البنا مليون جنيه مصري تساوي الآن نصف مليار على الأقل؛ فوقف الإمام رافضًا بإباء أن يتنازل عن قضية فلسطين، وقال: ما دمتم تظنون أننا عبيد ملتصقون بالأرض، ونمد أيدينا لغير الله فأنتم لم تعرفوا من هم الإخوان المسلمون!!
فقال المندوب السامي: لقد أخذت كل الأحزاب المصرية، واستفيدوا مثل غيركم من هذا المال لأنشطتكم! فقال الإمام: إننا نأبى أن نمد أيدينا لعدونا، ولسنا فقراء إلا لله تعالى. فعاد المندوب البريطاني وكتب في مذكراته: إن المال الذي سال له لُعاب الكثير من القيادات المصرية سال له أيضًا لعاب الإخوان المسلمين؛ لا ليأخذوه ولكن ليبصقوا عليه.
فلو كان الإخوان طُلاّب الكراسي والدنيا لتخلَّوا منذ زمن بعيد عن قضية الأمة، وهي فلسطين، بل جعل الإمام البنا أول مؤتمر في تاريخ الإخوان المسلمين عن القدس وفلسطين، ولما أرسل لرئيس وزراء مصر ليحضر -ولا داعي لذكر الأسماء ترفقًا ببعض الأحزاب- قال: أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين. وشكَّل الإمام البنا النظام الخاص الذي قدَّم تضحيات مشرِّفة لتحرير مصر من الإنجليز، وفلسطين من الصهاينة..
ولا تزال القدس وفلسطين القضية الأولى التي من أجلها سقط الكثير شهداء، وسُجن عشرات الآلاف، وعذِّب الآلاف. وأسس الإخوان حركة حماس، وهي الحركة التي قدمت السبق في الجهاد والاستشهاد والصبر الجميل في العمل السياسي والجهادي، وقدمت حركة حماس رغم الحصار كل صور القوة في مقاومة الصهاينة في حرب الرصاص المصبوب أو "موقعة الفرقان"، ورفع شعار: "الجوع لا الركوع"، وصارت غزة أكثر مكان في العالم أمنًا داخليًّا، وندرةً في الجرائم الجنائية، وأقل بلاد العالم في العنوسة والطلاق، وأكثر منطقةً في العالم في الإنجاب والتعليم، والجامعة الإسلامية من أفضل الجامعات العربية كلها، وفيهم ستون ألف حافظ للقرآن الكريم، ولا يزالون يرفعون شعار: "الجوع لا الركوع"، من أثر هذه التربية وفق منهج الإخوان المسلمين.
2- جاءت ثورة 23 يوليو وكان هناك اتفاق بين الضباط والإخوان المسلمين للثورة على الاحتلال البريطاني والملكية التابعة لهم، وأسهموا بفاعلية كبيرة لإنجاح الثورة، ولولا وقفتهم في حماية المنشآت المصرية والحفاظ على الأرواح لما نجحت هذه الثورة. لكن البكباشي جمال عبد الناصر انقلب على الإخوان وأعوانه محمد نجيب وغيره، واستحوذ على كل شيء، وعرض على الإخوان أن يشتركوا في حكومة ديكتاتورية، ولو تخلَّى الإخوان عن وطنيتهم ودينهم لاستجابوا لمطالب عبد الناصر، وتحملوا في سبيل ذلك الإعدام لقادتهم، وسجنًا مؤبدًا وغير مؤبد طال 160 ألفًا من الإخوان، وعُذِّبوا تعذيبًا تشيب له الولدان، وطُلب منهم أن يكتبوا من السجن بعد مرارة وحرقة وآلام الظلم والطغيان، والسجن والحرمان، والتعذيب والتهديد، أن يؤيدوا جمال عبد الناصر ويندموا على انضمامهم للإخوان، فرفضوا أن يتخلوا عن ثوابتهم الدينية والأخلاقية والوطنية..
ومع هذا وقف الأستاذ المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين وقفةً قويةً في وجه التكفير الذي قاده داخل السجن مصطفى شكري وكتب كتابه: "دعاة لا قضاة"، ووضع فيه معالم المنهج الوسطي الذي لا يكفِّر مسلمًا مهما ارتكب من الكبائر ما لم ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، هذا مع أن بعض السجانين كان يقول: "لو نزل ربنا هاسجنه معاكم"، وداس بعضهم على المصحف، وطلبوا قراءة الفاتحة بالمقلوب، هذا فضلاً عن قاموس البذاءات الذي كانوا يتلقونه كل يوم على يد أعوان عبد الناصر الذي كان يسعد برؤية مشاهد التعذيب حتى للنساء، أمثال الحاجة زينب الغزالي؛ التي أدخلوا عليها شرطيًّا ليهتك عرضها، لكن الله أهلكه، وأدخلوا على الشيخ الأودن العالم المفسر كلبًا جائعًا لينهش لحمه ويأكل عظمه، فسجد الشيخ سائلاً الله أن يحفظه، وظل الكلب معه يهز له ذيله..
ومع كل هذا البلاء المستطير لم يكفِّروا جمال عبد الناصر، وخسروا جزءًا من شباب الجماعة، بل عندما أيقظ الإخوان في السجن الأستاذ عمر التلمساني المرشد الثالث للإخوان المسلمين وقالوا له: لقد مات جمال عبد الناصر. فقال: الله يرحمه! فقالوا له: كيف تقول ذلك وقد فعل بنا ما فعل؟ فقال: إذا رحم الله عبد الناصر، فما تظنون أن يفعل بنا؟! انظروا إلى الدار الآخرة، وهذا مقام رفيع قال فيه الله تعالى: {وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].
3- عرض محمد أنور السادات على الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام الثالث للإخوان المسلمين في استراحة السادات بالقناطر أن يقبل منصب رئيس مجلس الشورى لمصر مقابل تنازلات جوهرية، فردَّ عليه الأستاذ التلمساني قائلاً: إنني أقبل أن أكون كنَّاسًا في شوارع مصر الإسلامية وليس رئيسًا لدولة لا تطبق الشريعة الإسلامية، وتحفظ حقوق المواطنين في الحرية والعدالة والكرامة. ولا ضير أن نذكر أن الأستاذ التلمساني كان قبل أن يدخل الإخوان من أكبر أغنياء مصر، وتبرَّع بكل ماله خدمةً لوطنه وأمته ودعوته، ومات لا يتقاضى إلا المعاش المحدود من نقابة المحامين. ومع هذا النُّبْل والرقي، انقلب السادات على الإخوان أولاً، والقوى السياسية المعارضة ثانيًا، وسجن الجميع؛ مما أدَّى إلى سوء عاقبته.
4- كان بوسع الإخوان أن يصمتوا على جرائم حسني مبارك في السلب والنهب والاستبداد والفساد، وأن ينالوا من الكراسي الكثير مثل أي تيار سياسي أقل منهم عددًا وعدةً، ولكن ثباتهم على مبادئهم جعلهم يصمدون في وجه الباطل، ويعمرون أرض مصر بخيرة العلماء والأطباء والمهندسين والعمال والفلاحين والطلاب والمدرسين، وكانوا هم من أول من أشاع الأخبار حول السلب والنهب الذي قام به علاء ثم جمال مبارك ووالدتهم السيدة سوزان؛ مما أثار غضب الرئيس داخليًّا لكشف الفساد، وخارجيًّا لمواقفهم من الصهاينة في فلسطين، والأمريكان في غزو العراق وأفغانستان وإذلال أمة الإسلام؛ فنال الإخوان من الطرد من الوظائف، والسلب من الحقوق السياسية والمدنية، وحُرم أي واحد قريب من الإخوان أن يعيَّن في السلك الدبلوماسي، أو يدخل إلى الجيش والشرطة والوظائف المهمة بل غير المهمة، بل سُجن منهم 45 ألفًا خلال ثلاثين عامًا عجافًا.
5- كان نصف الشباب على الأقل الذين خطَّطوا لثورة 25 يناير من شباب الإخوان المسلمين، ولم يعلنوا عن هويتهم من أجل إنجاح ثورة مصر، ثم شارك الإخوان بكثافة غير مسبوقة كمًّا وكيفًا، ولولا فضل الله تعالى أولاً ثم ثبات الإخوان بدءًا من موقعة الخيل والبغال والجمال لانتهت الثورة، وقد شهد بذلك أعداؤهم قبل أصدقائهم، وصبروا وصابروا ورابطوا، وحموا الميدان بطريقة بارعة أسهمت في وضوح المشهد الرباني والأخلاقي والتعايش الرائع مع غير المسلمين، حتى حمَوا الكنائس من البلطجية أثناء الثورة وأيام احتفالات أعياد الميلاد..
ولم يقف تيار سياسي من غير الإسلاميين في أية وقفة بميدان التحرير، فنجحت عددًا وإعدادًا، شكلاً ومضمونًا، وما قبلوا من المجلس العسكري إملاءاته ونكوصه على مبادئ الثورة، لكنهم اختاروا أن ينحازوا إلى ثوابتهم ووطنيتهم، وتحمَّلوا أقصى وأقسى وأعنف وأسوأ حملات التشهير بهم، من خلال أكثر من 22 قناة فضائية رسمية وغير رسمية وجرائد لا حصر لها، ومع هذا يمدون أيديهم وقلوبهم لكل أبناء وطنهم، مسلمين ومسيحيين، رجالاً ونساءً، شيبًا وشبابًا من أجل بناء مصر، وطلبوا فعليًّا من المستشارين البشري والغرياني ومكي أن يقبلوا الترشح للرئاسة، فلما وجدوا من المجلس نكوصًا على مبادئ الثورة وحقوق الشهداء تقدموا لتحمل الأمانة؛ فهي عبء ثقيل في مرحلة حرجة ليس فيها من المغانم من شيء، وكان أصلح لهم وأكثر راحة أن يبتعدوا هذه الفترة الأولى، لكن لأجل مصر تقدم مرشحوهم الذين لم يرغب أحدهم أبدًا في منصب الرئاسة.
وأخيرًا ها هم يقفون أمام الحكم القضائي الجائر الذي لم يرعَ دماء الشهداء والجرحى ولا حرقة الآباء والأمهات الموتورين، أو شوَّهت فلذات أكبادهم، فكان هذا الحكم القضائي لكثير من المجرمين قتلة الشباب الأعزل الثائرين بالحق، من أمثال مبارك وزبانيته من أبنائه وأعوانه.
أخيرًا..
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].
وقال الشاعر بديع الزمان الهمذاني:
سوف ترى إذا انجلى الغبار *** أفـرس تحتـي أم حمـار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق